سورة المنافقون - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المنافقون)


        


{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} لصباحتها وتناسب أعضائها {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحًا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس. ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، والخطاب قيل: لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة. وعطية العوفي يسمع بالياء التحتية والبناء للمفعول، وقيل: لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلى الله عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره؛ وكذا السماع لقولهم، وليوافق قوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ} [المنافقون: 1] والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة، وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الاعراب؛ وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ؛ والكلام مستأنف أيضًا، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه، وقيل: هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في {لِقَوْلِهِمْ} أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله:

فقلت:
عسى أن تبصريني كأنما *** بنى حوالي الأسود الحوادر
وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، و{خُشُبٌ} جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحًا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر:
لا يخدعنك اللحى ولا الصور *** تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا *** وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه *** له رواء وماله ثمر
وقرأ البراء بن عازب. والنحويان. وابن كثير {خُشُبٌ} بإسكان الشين تخفيف خشب المضمون، ونظيره بدنة وبدن. وقيل: جمع خشباء. كحمر. وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراآت.
وقرأ ابن عباس. وابن المسيب. وابن جبير {خُشُبٌ} بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل: متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحًا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعًا بهم، وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل:
مازلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلا تكر عليهم ورجالا
وكذا المتنبي قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم *** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
والوقف على {عَلَيْهِمْ} الواقع مفعولًا ثانيًا ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى: {هُمُ العدو} استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى ككثير من أبناء الزمان {فاحذرهم} لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون {عَلَيْهِمْ} صلة {صَيْحَةٍ} و{هُمُ العدو} والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءًا على أنه يكون جمعًا ومفردًا وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدًا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا بساعد عليه ترتب {فاحذرهم} لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن {قاتلهم الله} أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا: قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لابد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا: {قاتلهم الله}.
{إِنّى يُؤْفَكُونَ} وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟ فأني ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفًا لقاتلهم وليس هناك استفهام، وتعقبه أبو حيان بأن {إِنّى} لا تكون لمجرد الظرفية أصلًا، فالقول بذلك باطل.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ} أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والاعراض على ما قيل؛ وقيل: هو على حقيقته أي حركوها استهزاءًا، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن ذلك.
روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارًا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد. وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} الخ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد. والشيخان. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال: حتى أنزل الله تعالى تصديقي في {إِذَا جَاءكَ المنافقون} [المنافقون: 1] ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر: إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانًا، وإذًا على ما مر، و{يَسْتَغْفِرِ} مجزوم في جواب الأمر، و{رَسُولِ الله} فاعل له، والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن {رَسُولِ الله} يطلبه عاملان: {يَسْتَغْفِرِ} و{تَعَالَوْاْ} فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة {يَصِدُّونَ} في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة {هُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ}؛ وقرأ مجاهد. ونافع. وأهل المدينة. وأبو حيوة. وابن أبي عبلة. والمفضل. وأبان عن عاصم. والحسن. ويعقوب بخلاف عنهما {لَوَّوْاْ} بتخفيف الواو، والتشديد في قرارة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الاتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى:


{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جل شأنه: {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} وتعليله بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم. والإظهار في مقام الاضمار لبيان غلوهم في الفسق؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولًا أوليًا، والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولواحقها كما صح وستسمعه قريبًا إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الاتيان لا يظهر كونه سببًا للاستغفار، ويومىء إليه قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي: «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.
وحكى مكي أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعدما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ} [التوبة: 80] إلخ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم . فنزلت هذه الآية {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ...}» الخ.
وأخرج أيضًا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفًا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدًا وهو عدم المغفرة لهم مطلقًا، والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضًا إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.
وقرأ أبو جعفر استغفرت دة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: {قُلْ مَا حَرَّمَ} [الأنعام: 143] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضًا ضم ميم {عَلَيْهِمْ} إذ أصلها الضم ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة {أَمْ} عليها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان ***
وقال الزمخشري: قرأ أبو جعفر آستغفرت إشباعًا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبًا لهمزة الوصل ألفًا كما في آلسحر. وآلله وقال أبو جعفر بن القعقاع: دة على الهمزة وهي ألف التسوية.
وقرأ أيضًا بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4